الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
واعلم أنَّ السواكَ مع كونِه متواتِراً لم يخرِّج المصنِّفُ أحاديثَ فضيلته، ولم يهتمَّ به في تراجمه، نعم أخرج في باب الجمعة حديثاً جيداً مع كونه أليق بباب الطهارة، ولا أدري ما وجهه؟ ولعله عدَّه من متعلقات الصلاة كما هو نظر الشافعية، ولذا أخرجه في كتاب الصلاة. ثم الحديث الذي أخرجه في باب الجمعة لفظه: «مع كلِّ صلاةٍ» فلم يعتبِرْه من أجزاء الطهارة، ولذا لم يُذكر في هذا الباب، والله تعالى أعلم. ثم إنَّ الحنفيةَ قائلون باستحبابه عند القيام إلى الصلاة أيضاً إنْ أبطأ بعد الضوء. قوله: (فاستَنَّ): فاستواه على أسنانه، مُشْتَقٌّ من السِّنِّ. 245- قوله: (يَشُوص): أي إجراءِ السِّوَاك في داخل الفم.
لعله يريد ترتيبَ إعطائه، ويُستفاد منه كونُه من أشياء الفضيلة. قوله: (وقال عفان)... إلخ هذا مقاولة مع أن عفان شيخُه، فلعله أخذه منه مقاولةً لا مذاكرةً، وما يُسمع من الشيخ في سلسلة الكلام وإن لم يجلس للتحديث فهو مقاولةٌ، فإِن جلس للتحديث فهو مذاكرةٌ، فالتعهد في المذاكرة أزيدُ من المقاولة، فالمقاولة كمَجْلِس الوعظ. 246- قوله: (أَرَاني أَتَسَوَّكُ) ويُعْلم منه أنها قصةُ الرؤيا، ومن بعض الألفاظ أنها قصةُ اليقظة كما عند أبي داود. فذهب بعضهم إلى التعدد وجُمع بأنه رآه أولاً في الرؤيا، ثم وقع في اليقظة، كذلك وقد كان يرى أشياءَ في المنام ثم تقعُ له مَثْلُها في اليقظة. 246- قوله: (فقيل لي) وعلم منه أنه شيء فيه فضيلة حيثُ نزل فيه الوحيُ. فائدة في معنى الرؤيا واعلم أن ما يرَونه الأنبياءُ عليهم السلام من أشياءِ الغيب في اليقظة يُقال له: الرؤيا أيضاً، لأن الرؤيا التي يراها النائم في نومه لا يراها غيرُه، وكذلك الأنبياء عليهم السلام يرون أشياء في اليقظة ولا يراها غيرُهم. وفي «الصحيح» لابن حِبان: أنا بِشارةُ عيسى، ورؤيا أمي، وكانت رأت نوراً من الشرق إلى الغرب عند ولادته، ثم أطلق عليه الرؤيا، وفي سفر الدانيال: أن يختم بعد سبعين أسبوعاً على الرؤيا، وعنى بها مشاهداتٍ الأنبياء عليهم السلام والنبوة، فما رأى النبي صلى الله عليه وسلّم كان رؤيا عين وإنما أطلق عليه الرؤيا لما قلنا. وسيجىء مزيد بحث في التفسير. 246- قوله: (قال أبو عبد الله: اختصره نُعَيم) وفي «الميزان»: أن نُعَيماً هذا كان يُزَوِّرُ حكايات في أبي حنيفة رحمه الله تعالى. لا يقال: إن البخاري إنما أخرجه في الاستشهاد دون الأصول، لأنا نقول: إنه أخرج عنه في الأصول أيضاً كما في باب فضل استقباله القبلة... إلخ، وفي موضع آخر أيضاً، فينبغي أن يُؤوّل ما في «الميزان» ويقال: إن معنى التزوير عدمُ المبالاة لا أنه كان يزوّر بنفسه. ولا ريب في كونه مخالفاً لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، لأنه كان مُنْشئاً وكاتباً للقاضي أبي مطيع البلخي تلميذ الإِمام فأسر بأمره لأمر ثم كان يرميه بالجَهْمية بعد. ومن مثل هذه الأشياء قال البخاري: «محمد بن الحسن جَهْمي» مع أن محمد بن الحسن يَرُدُّ على الجهم، ويقول: إن الاستواء على العرش صحيح، مَن خالفه فهو جَهْمي، كما في «الفتح» وفي «المسايرة» لابن الهمام: أَنَّ أبا حنيفة ناظر جَهْماً ثم قال في الآخِر: أخرج عني يا كافر. فالعجب أنهم كيف يَطْعَنوننا بالجهمية، والله المستعان.
وضوءك للصلاة، وهذا وضوء لحال الأحداث لا لحال الصلاة، وأما الآن فهو خامل عندهم بحيث لا يكادُ يعرفونه، واشتهر عندهم الوضوء لحال الصلاة فقط، لأنَّه في المائدة وهو الذي في كُتب الفقه، وما عند مسلم: «الطُّهُور شَطْرُ الإِيمان» فإِنه يشمل جميع أنواع الوضوء. وصور التطهير، لا أنه الوضوء المعروف فقط. 247- قوله: (ثم اضْطجِع على شِقِّك الأَيمن) وهو نوم الأنبياء عليهم السلام، لأنَّ التيامنَ من دَأْب الشرع في جميع المواضع، لأنَّ القلبَ لا يزال معلَّقاً فيه، فلا يغرق في النوم ولا يطرأ عليه الغفلة، وعند أبي داود أن نومهم بالاضطجاع على الظهر، فينبغي أن يفعل أولاً كما عند أبي داود، ثم يضطجع كما في «البخاري». والنوم على البطن من ضجعة أهل النار. وقالت الأطباء: إن النوم على الشقِّ الأيسر أيسر وأسهل، وأعون في الهضم، وأنفع للصحة. 247- قوله: (وجهي إليك) منه ياوه جيز جواقبال على الله كى هى. 247- قوله: (على الفطرة) يعني تموت كما جئت من عند الله تعالى يعني جيسا خدا تعالى كى يهان سى آئى تهى ويساهى جاؤكى. 247- قوله: (قال لا ونبيك)... إلخ لأن في لفظ الرسول تكراراً وتمسك به بعضهم على نفي الرواية بالمعنى، لأنه لم يجوزه تبديل اللفظ. قلت: النهي ههنا لاستلزامه التأكيد، والتأسيس أولى. ثم إنَّ الروايةَ بالمعنى لا تمكن في اللغة العربية، لأنه لا ترادف عند التحقيق، ولا تركيب يؤدي مؤدَّى تركيب آخر. نعم يمكن تأدية المعنى المشترك فقط، فخصائص كل تركيب على حِدَة لا يفيدها تركيب آخر، ثم إنهم قالوا: إن أنساً رضي الله عنه وابن عمر ممن كانوا يرويان باللفظ وابن مسعود رضي الله عنه ممن كان يروي بالمعنى عند ذُهُول اللفظ مع التنبيه عليه، والإمام رحمه الله تعالى ممن كان يروي باللفظ، لأن يحيى بن مَعِين لمَّا وثَّقَه قال: ولا نَكْذِبُ بين يدي الله، فإنا ما رأينا أحسنَ منه رأياً، وكان لا يُحَدِّث إلا بما يحفظ، وكتبوا أيضاً: أنه كان من شرائطه عدم النسيان ما يرويه مُدَّةَ عُمُره. وهو في الأصل منقول عن أبي يوسف رحمه الله تعالى، ثم إنَّ يحيى بن مَعِين ويحيى بن سعيد القَطَّان يقال هما حنفيان. قلت: وهو على طريق السلف لا كما شاع الآن، ثم إن رأيهما لم يكن حسناً في حق الشافعي رحمه الله تعالى، وإن لم يكن حسناً فإن الشافعي رحمه الله تعالى أجلُّ من أن يُخَرِّج فيه مثلهُما. فائدة: واعلم أنه ينبغي للجُنُب أن يتوضأ إذا أراد أن ينام لما في «تنوير الحوالك»: عن ميمونة بنت سعد: «هل يَرْقُدُ جُنُبٌ؟ قال: لا أُحِب إلا أن يتوضأ، فإِني أخشى أن يموت فلا يَحْضُره جبرائيل». وقد نقله مولانا عبد الحيّ رحمه الله تعالى في «حاشية الموطأ» أيضاً، وكان ابن عمر رضي الله عنه يفعله إلا أنه لم يكن يمسح في ضوئه هذا، ولعله يكون عنده فيه قدوة، وفيه عندي أحاديث عديدة جيدة عن النبي صلى الله عليه وسلّم وقد صرَّحَ فقهاؤنا باستحبابه، وصرَّحوا بأن هذا الوضوء لا يُنْتَقَض من البول والغائط راجع «الدُّر المختار» و«عين العلم».
واعلم أنَّ الدَّلْكَ معتبر في الغسل لغةً، وأَقَرَّ به الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى في «الفتح»، ولذا شرطه المالكية، وما لا دَلْكَ فيه لا يسمى غسلاً، بل يقال له: الصَّبّ والإِسالة، ولكنه قد مرَّ معنا مرَّة أنَّ اعتبار جميع مراتب المسمَّى أن بعضها من مراحل الاجتهاد، فأخذ مالك رحمه الله تعالى بجميع مراتبه، وعمَّمه آخرون، ولا يقال فيه: إنه خلافُ النص، فإِن النص لم يتعرَّض إلى المراتب أصلاً، وإنما أمر بالمسمَّى، وقد قلنا به.
وتقديمه على الغسل سنة، والتوضأ بعده- إن توضأ قبله- بدعةٌ، إلا بالتفاصيل المذكورة في الفقه- وظني أنَّ هذا الوضوء كاملٌ حتى يمسح فيه أيضاً، وأما غسل الرجلين فأَمْرُه كما في «القُدُوري»: إن كان المغتسَلُ يجتمع فيه الماء يؤخرهما، وإلاّ فيغسلهما مع وضوئه. ثم في «فصول البقراطي»: أن الغسل بعد الجماع متصلاً قد يورث عِلَّة. 248- قوله: (غرف) والغَرْفة بالفتح في الإِناء، والغُرفة بالضم في النهر، قال تعالى: {إلا من اغتراف غرْفَةً بيده} (البقرة: 249) .
وهكذا بوَّب في الوضوء، ص 32 باب وضوء الرجل مع امرأته، فكأنه تَرَكَ مذهب أحمد رحمه الله تعالى، وقد مرَّ مني تفصيلُ المسألة، وأنَّ الفضل لا يصدق بالغسل حميعاً، وأن مناط أحاديث النهي هو الأَسآر. 250- قوله: (الفَرَق) إناء يسع ثلاثة آصع، فإن كان ملآن يصير لكل منهما صاع ونصف، والمعروف في عادته في الغسل صاع، وقد مرَّ أنَّه لا تحديد فيه، والأمر تقريبي، وإن كان خالياً فالأمر تحقيقي، ويصير لكل منهما صاعاً صاعاً، فإنَّه لا يلزم بكون الفَرَق هذا القَدْر أن يكون الماء فيه أيضاً كذلك، فيمكن أن يكون الماء على قدر عادته.
وإنَّما ترجم له لعنايته به ولوروده في الأحاديث، والعناية ههنا كعناية أهل المعاني، وقد مرَّ أنه لم يعتن به أحد من الأئمة غير محمد رحمه الله تعالى، فإِنه اعتبره في الغسل اتباعاً للأثر لا تحديداً وتوقيتاً. 251- قوله: (وأخو عائشة) أي رضاعاً. 251- قوله: (الجُدِّي) منسوب إلى الجُدَّة، وهو الأفصح من الجدة، وبالفتح لَحْنٌ. 252- قوله: (ثم أَمَّنا) وعو عند مسلم وأبي داود أبسط منه، وفي إسناده يحيى بن آدم، وهو من رجال الكوفة. راجع له «نيل الفرقدين»، فإن الحافظ رحمه الله تعالى غَلِطَ في شرح أثره.
وهو جائز عندنا أيضاً. 257- قوله: (ثم أفاض على جسده) وهو موضع الترجمة، وقد حصل لي التردُّد بعد المراجعة إلى طرقه في اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلّم فيه بالمرة الواحدة، ولعله جرى فيه على عادته بالتثليث، فإِن كان في هذه الواقعة هو التثليث، فالترجمة لبيان المسألة فقط.
والحِلاب إناء معروف، وما قيل: إنه تصحيف جُلاب بمعنى كل آب أو بمعنى حَبُّ المَحْلَب فكلُّه شطط، لأنه استعمله المصنَّف رحمه الله تعالى في مواضع، والقول بالتصحيف في المواضع كلها، أو تغليط المصنِّف رحمه الله تعالى بأنه فَهِم معناه حَبُّ المَحْلَب للاستنفاق بينها بعيدٌ جداً، ولأنه ورد هذا اللفظ في الحديث صراحة وقد استشكل عليهم جمع الحِلاب والطِّيب. قلت: بل الجمع بينهما لكون التقابل بينهما تقابل التضاد، فإِن في الحِلاب يبقى ريح اللَّبَن، فأشار إلى أنه لا بأس بريحه ولونه إنْ ظهر في الماء، وكذا الطِّيب عند الغسل قد يبقى أثره بعد الغسل، فلا بأس به أيضاً. ونظره إلى الترجمة الآتية «باب مَن تطيَّبَ ثم اغتسل وبقي أثر الطيب» وإن كان استعمال الطيب هناك للجِماع ليحصل النشاط لا للغسل، والتطيب قبل الاغتسال أيضاً شائع في بعض البلاد، فيدَّهِنُون أولاً ثم يغتسلون، المعروف في بلادنا التطيب بعد الغسل فقط. والحاصل: أن مَطْمَح نظره في هذه الترجمة أنه لو بقي في الماء أثرُ الحِلاب أو شيء من جنسه، فلا بأس به، وبعبارة أخرى أنه لا بأس بماء اختلط به شيءٌ طاهر. أما مسألة الطيب فجاء استتباعاً، وحينئذ لا يَرِدُ أنه لا ذِكْرَ له في الحديث على أنهما يشتركان في معنى بقاء الاثر، ففي الحِلاب يبقى أثر اللَّبَن، وفي التطيب يبقى أثر الطيب، فيقول: إنه لا بأس ببقائهما بعد الاغتسال. 258- قوله: (نحوَ الحِلاب)، وفي الطرق إنه كان الحِلاب بعينه.
أ قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى والثوري: أنهما واجبتان في الغسل واختاره أحمد وإسحاق مطلقاً. قلت: ولا ريب في ثبوتهما في غسله صلى الله عليه وسلّم وتعيين المراتب من باب الاجتهاد، فصار نظرنا أنهما واجبتان حيث شدَّد الشرع في الجَنَابة ما لم يشدِّد في الحَدَث الأصغر، فَنَهى الجُنُبَ عن قراءة القرآن، ولم يَنْهَ عنها المُحْدِث بالحَدَث الأصغر، فعَلِمنا أن للجنابة سِرايةً إلى الباطن أزيد من الحدث الأصغر، فقلنا بالافتراض. ومَنْ زعم أن الفرض لا يثبت بالخبر الواحد فقد سها، فإِنه يثبت بالخبر أيضاً إلا أنه لا يكون قطعياً، ولا يجب كونُ كلِّ فرض قطعياً. نعم ما ثبت بالكتاب يكون قطعياً قطعاً. ثم إن حفص بن غِياث هذا الذي في الإِسناد من خاصة تلامذة أبي يوسف، والبخاري إذا أخذ حديث الأعمش يعتمد فيه على حفص هذا. قوله: (غُسلاً) الغُسْل بالضم: مصدر واسم، وبالفتح: مصدر، والغِسْل بالكسر: الماء ولكنه نادر. ثم إن استعمال المِنْدِيل جائز. راجع المسألة من «المنية» و«قاضي خان» وفي واحد منهما كراهةُ استعمال المِنْدِيل، وتُحمل على التنزيه. والحاصل: أنه ليس بسنَّة، وتكلم في لفظه واشتقاقه، وهو مشهور.
260- قوله: (الحُمَيدي) رفيق الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى في سفره، وحامل لواء مذهبه، ومخالف لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولمّا كان البخاري من تلامذته اتَّبَع شيخَه في الخلاف أيضاً، وهذا هو الدَّأْب من القديم إلى الحديث أن التلامذة يتَّبِعون مشايخهم في أعمالهم، وأخلاقهم، وشمائلهم، وخصائلهم ومسائلهم. ونقل البخاري قصة حَلْقِ الحجاج رأس الإمام وإصلاحه له، مع أن مدارك الإِمام دقيقة، فإنَّ التيامنَ يمكن أن يكون باعتبار الحالق وباعتبار المحلوق كليهما. وكذا استقبال القِبلة. فليراعِ الحُمَيدي هذه الأمور أيضاً، وليحذر عن الطعن في حق الإِمام الذي مُعْظَم الأُمَّة على أثره. ولمثل هذه الأمور لم يكتب البخاري مناقبه في أحدٍ من تصانيفه، لأنه لما بلغته مَثَالِبُه ومناقبه، وغلب على ظنه مثالبه فقط، أعرض عن مناقبه. ثم إن هذه أمور وعوارض تعتري الرجل، ولا يجب أن يستقرّ عليه رأيه، كما أنك تسمع اليوم فِسقَ رجل فتنفر عنه، ثم تبلغ إليك محاسنه، فيتبدل رأيك فيه وتُحِبّه. فهذه أمور ليست مما يستقر عليه الإنسان، بل تبنى على الإِخبار، وأَجِد في الصحيح كثيراً من الرواة من تلامذة أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى، لأنه ترجَّح عنده مناقبهم، ولا أر عن الشافعي رحمه الله تعالى حرفاً في هجو الإمام، بل ينقل منه المناقب، حتى إني لم أر مناقب أحمد رحمه الله تعالى أزيد ما رأيته في كلامه. فمنها: أني تحمَّلت عنه وقْرَيْ بعيرٍ من العلم. ومنها: أنه كان يملأ العين والقلب. وأنه إذا تكلم فكأنما ينزل الوحي. وينقل عن أحمد ومالك رحمهما الله تعالى بعضاً من المناقب. وشيئاً من المَثَالِب أيضاً. وسببه وقوع الفتن والمصائب من جهة الحنفية. وفي تاريخ الخطيب لفظ الكفر أيضاً في حق الإمام {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} (الكهف: 5). وهو شافعي في المذهب، وأجاب عنه السلطان... وسماه «السَّهْم المُصِيب في كَبِدِ الخطيب»، وقد طُبِع الآن، وليراجع في هذه الأمور الخارجُ والواقعُ، ألا ترى ماذا يفعل الناس اليوم؟ وكيف يتَّهِم بعضهم بعضاً. واعلم أن مشايخنا رحمهم الله تعالى اختلفوا في جواز الاقتداء عند الاختلاف في الفروع بين الإمام والمأموم فقيل: إنه جائز إذا عَلِمَ من حال الإِمام أنه يحتاط في مواضع الخلاف وألا لا. وقيل: إذا شاهد إمامه يرتكب ناقضاً من النواقض المختلفة فيها كَمَسِّ المرأة، ومَسِّ الذَّكَر، أو خروج الدم من غير السبيلين، لا يجوز افتداؤه لمن كان يراه ناقضاً، وإلاّ صح. قلت: والذي تحقَّق عندي أنَّه صحيح مطلقاً سواء كان الإِمام محتاطاً أم لا، وسواء شاهد منه تلك الأمور أم لا، فإِني لا أجد من السلف أحداً إذا دخل في المسجد أنه تفقد أحوال الإِمام أو تساءل عنه بَيْدَ أنهم كانوا يقتدون وينصرفون إلى بيوتهم بلا سؤال ولا جواب. وفي «فتاوى الحافظ ابن تيمية»: أن هارون الرشيد افْتَصَدَ مرةٌ ثم قام ليصلي، وكان أبو يوسف رحمه الله تعالى موجوداً هناك، فاقتدى به مع علم الناقض عنده. فإِن قلت: كيف الاقتداء مع تيقُّن الإِمام على عدم الطهارة عنده؟ قلت: إنما يتوجه السؤال إذا كان الإمام على أمرٍ باطل قطعاً، وهذه المسألة مجتهَدٌ فيها، أمكن فيها أن يكون الحق إلى الإِمام، وأمكنَ أن يكون في جانبٍ آخر، ولذا لا يسعك أن تحكم على صلاة الآخرين أنها باطلة عند الله تعالى، ولكن يَبْذُل الجَهْدَ ويتحرَّى الصواب لينال الثوابَ بقدر الاجتهاد. ولذا أقول: إن الإِمام إن كان شافعياً وتكلَّم ناسياً، ثم مضى في صلاته لعدم كونه ناقضاً عنده، ينبغي أن يَفْسُدَ صلاة المقتدي الحنفي لأن بين المسألتين فرقاً، فإِن مسألة التكلم قليلةُ الوقوع جداً بل ليست فيه إلا واقعة ذِي اليدين، فإِن تَمَّتْ على نظر الحنفية ينهدم مراد الشافعية عن أصله، وليس في أيديهم غيرها شيء، بخلاف مسألة النواقض، فإِنها كثيرة الوقوع من الصدر الأول، وما تكون كذلك لا يمكن فيها فصل الأمر أبداً. ثم الذين قالوا بالجواز عند الاختلاف في الفروع افترقوا فرقتين: فقال قائل منهم: إنَّ العبرةَ لرأي الإِمام، فإِن تحقق ناقض على مذهبه وانتقض وضوؤه لا يجوز الاقتداء به، وإلا جاز، ولا عبرة بحال المقتدي، وإليه ذهب الجصَّاص، وهو الذي اختاره لتوارث السلف، واقتداءِ أحدهم بالآخر بلا نكير مع كونهم مختلفين في الفروع، وإنما كانوا يمشون على تحقيقاتهم إذا صلَّوا في بيوتهم، أما إذا بلغوا في المسجد فكانوا يقتدون بلا تقدم وتأخر، ولن يُنْقَل عن إمامنا أنه سأل عن حال الإِمام في المسجد الحرام مع أَنَّه حَجَّ مراراً. وقال آخرون: إن العبرة لرأي المقتدي، والقول الثالث فيه لنوح أفندي وهو فاضل ذكي متيقِّظ بعد الشيخ ابن الهُمَام، وله حاشية مبسوطة على «الدر المختار»، أودع فيها مباحث لطيفة، ويُعلم منها أنه رجل محقق، واختار أن الاقتداء إنما يصح عند تلاقي الرأيين: أي المقتدي والإِمام. وإلا لا، وهذا القول من جانبه وليس عن السلف. وهناك صورة أخرى وهي أن الإِمام صلى وكان على غير وضوء على رأيه وعلى وضوء على رأي المقتدي، مثلاً: كان شافعياً فمسَّ امرأة ثم أمَّ الناس، فهذا على وضوءٍ عند الحنفية، ومحدثٌ على مذهبه، فيجري فيه الاختلاف المذكور أيضاً. قال الشيخ ابن الهُمام: إن شيخه سراج الدين تلميذ صاحب الهداية كان يختار مذهب الجصَّاص، وأنكر مرة أن يكون فسادُ الصلاة فيه مروياً عن المتقدمين، وإنما أوجده المتأخرون، فَذكَّرْتُه بمسألة «الجامع الصغير» في الجماعة الذين تحرَّوا في الليلة المظلمة، وصلَّى كلٌّ إلى جهة، مقتدين بإِمامهم، أنَّ صلاةَ مَن عَلِم إمامه على خطأ فاسدة، لاعتقاده إمامَه على خطأ، فإنها تدل على أن الاعتبار لرأي المقتدي عند السلف أيضاً، وليس إيجاداً من المتأخرين فقط، فلم يجبه شيخه. قلتُ: الفرق ظاهر ونظير الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى، وكذا سكوت شيخه في غير محله، فإِنَّ معاملةَ القِبلة قطعية يمكن فصلها بالرجوع إلى الحِسّ بخلاف النواقض، فإِنه لا سبيل فيها إلى الفصل بعد اختلاف السلف فيها اختلافاً كثيراً، فلو علم المقتدي إمامه على خطأ في مسألة التحرِّي ينبغي أن لا تصح صلاته، بخلاف الاجتهاديات التي لا تزال الأنظار تدور فيها إلى الأبد، ووجه الفساد في المسألة المذكورة ليس ما فهمه الشيخ من مخالفة اعتقاده لإِمامه، بل هو ترك المتابعة له، وهي من الواجبات. وكان مولانا شيخ الهند رحمه الله تعالى يذهب إلى مذهب الجصَّاص ويستعين بمسألة قضاء القاضي في العقود والفسوخ، فإِنه ينفُذُ ظاهراً أو باطناً مع شرائطها المذكورة في الفقه. وقد سبق مني في المقدمة أن أهل قُبَاء، إنما عَمِلوا بخبر الواحد وتركوا قِبلتهم الثابتة بالقاطع لهذا المعنى، لأنه كان عندهم طريق التحقيق والتثبيت، وفي مثله يجوز أن يكون الخبر ناسخاً للقاطع. والحاصل: أَنَّه لا نزاع في الجزئي القليل الوقوع، وإنما الكلام فيما تواتر فيه الخلاف كالنواقض. ثم لا يذهب عليك أن ابن نُجَيم في باب قضاء الفوائت، وابنَ عابدين في مقدمة «رد المحتار» وسَّعاً سهواً مُضِراً، حيث وسَّها للأُمِّيِّ الذي لا يعلم مذهبَ أحدٍ أن يستفتيَ في صلواته الخمسِ أيَّ عالم من علماء المذاهب الأربعة شاء، ويعمل بما شاء من فتاواهم. أقول: وهذا باطل، فإِنَّ حاصله: أن الأُمِّيِّ ليس له مذهب والقياس على مسألة الاقتداء فاسد، فإِن الاقتداء لا مناص فيه عن المتابعة، بخلاف العمل بالمذاهب فإِن له أن يتقيد بمذهب ويتابعه في مسائله. أما العمل بمذهب الشافعي رحمه الله تعالى في صلاة، وبمذهب الحنفية في صلاة أخرى، فمسلكٌ غيرُ مستقيم، والتزام للتناقض، ولا نظير له في الدِّين. وتحقيقه: أنَّ المسائلَ من مذهب واحدٍ تكون مُتَّسِقَة، أعني به أنه تكون بينها سلسلة وارتباط في ذهن المجتهد، فإِذا خلط في هذه المسائل، فيعمل تارةً بهذا وأخرى بهذا، يلزم التناقض، وإن لم يَبْدُ في بادىء الرأي، لأنها ربما تبنى على أصول مختلفة يخالف أحدهما الآخر، فإِذا عمل بتلك المسائل كلها ابتلي بالتناقض من حيث لا يدريه، فإِن تلك المسائل وإن لم تكن متناقضة إلا أن الأصول التي تتفرع عليها تلك المسائل تكون متناقضة، فلا يلوح التناقض بين تلك المسائل في بادىء الرأي مع أنه متحقق بعد الإِمعان. ثم ما في كُتُب الفقه أنّ الرجوع عن التقليد بعد العمل غيرُ جائز، ليس معناه ما فهمه بعض القاصرين أنه لا يجوز كون الشافعي حنفياً أو بالعكس. وكذا ليس معناه عدم جواز ترك تحقيق بعد سُنُوح تحقيق آخر خلافه، لأنه يجوز التحوُّل من مذهب إمام إلى مذهب إمام آخر إن بدا له ودعته حاجة. وكذا يجوز للمجتهد أن يترك تحقيقه ويختار الجانب الآخر إن رأى فيه الصواب، فإِن الشافعي رحمه الله تعالى كان قائلاً بعدم وجوب الفاتحة على المقتدي في الجهرية، ثم رجع عنه واختار وجوبها قبل وفاته بسنتين. فهذا أيضاً جائز، بل معناه أنه إن اختار تحقيقاً في مسألة ثم عمل عملاً لم يكن صحيحاً على هذا التحقيق، وأراد أن يطلب له صورة الصحة فقال: إني أختار تحقيقاً آخر في تلك المسألة بعينها، تصحيحاً لعمله، فإِنه لا يجوز. كحنفي صلَّى الظهر، ثم ظهر أن الدَّمَ كان يسيل منه، ومقتضاه أن يفسد طُهره، فأراد أن يُبقيها صحيحة فقال: إني أختار مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، فهذا غير جائز. وما نقل عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه توضأ مرةً وصلى به، ثم لما عَلِمَ أن الماء الذي توضأ منه كانت فيه فأرة، وكان أزيد من القُلَّتين، قال: إني أختار مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، فَبَعْدَ تسليم صحته أقول: إنه جواب على أسلوب الحكيم، وليس من باب ترك التحقيق بعد العمل به، وغرضه أنا نحكم بنجاسة الماء عند العلم بها كما هو مذهبه، فلم يكن نجساً على مذهبه إلا بعد العلم بها، ولم تكن له حاجة إلى ترك تحقيقه، ولكنه نحو تعبير جرياً على أسلوب الحكيم. وإنما أنكرتُه لأنه لم يثبت عندي عن السلف الرجوع بهذا المعنى، وقدوتي في هذا الباب وعمدتي عبد الله بن المبارك، فقد قال الترمذي في باب ما جاء لا طلاقَ قبل النكاح: وذكر عن عبد الله بن المبارك أنه سئل عن رجل حَلَف بالطلاق أن لا يتزوج، ثم بدا له أن يتزوج، هل له رخصة أن يأخذ بقول الفقهاء الذين رخَّصوا في هذا؟ فقال ابن المبارك: إن كان يرى هذا القول حقاً من قَبْلِ أن يُبتلى بهذه المسألة، فله أن يأخذ بقولهم، فأما من لم يرضَ بهذا فلما ابتُليَ أحبَّ أن يأخذ بقولهم، فلا أرى له ذلك ا ه.
صرَّح في هذه الترجمة بنجاسة المَنِيِّ وعَدَّه من القذر واختار أنَّ الماء المستعمل طاهر، وإليه ذهب الجمهور، وقال مالك: إنه مُطَهِّر أيضاً. قوله: (ولم ير ابن عمر رضي الله عنه)... إلخ وهذا القدر عَفْوٌ عند مشايخنا القائلين بنجاسة الماء المستعمَل أيضاً، وفي «الدر المختار» أنَّ العِبرةَ عند اختلاط المستعمَل مع غيره للغالب. 262- قوله: (غسل يده) يعني إن تيسَّر له الغسل قبل الإِدخال، فإِنه يغسلهما وإلا يسع له أن يدخلها في الإِناء، وتركيبه مذكور في «شرح الوقاية»، ونقل الشيخ العيني رضي الله عنه عن ابن عمر بإِسناد قوي أن الحائض إن أدخلت يدها في الإِناء تنجَّس، ولعل فيه تفصيلاً، عنده. وفي «الفتاوى» لابن تيمية عن أحمد رضي الله عنه: أن الجُنُب إن أدخل يده في الماء نجسه، فهاتان المسألتان تدلان على نجاسة الماء المستعمَل، وإنما ذكرتهما لتخليص رقابنا على رواية نجاسة الماء المستعمَل، فكأن لها مُسْكَة أيضاً. وغرض البخاري من هذه الأحاديث إثبات غسل اليدين قبل الاغتراف، والاغتراف قبل غسلهما عند الحاجة ليثبت به طهارة الماء المستعمل، وإن كان التوقي منه مطلوباً. 263- قوله: (حدثنا أبو الوليد: حدثنا شعبة)... إلخ هذا هو الإِسناد في قَدْر ماء وضوئه صلى الله عليه وسلّم أنه كان ثلثي المُدَّ عند النَّسائي.
فيه تعريض للمالكية، وإشارة إلى أَنَّ الموالاةَ ليست بشرط، واختار فيه مذهب الحنفية. قوله: (ويذكر عن ابن عمر رضي الله عنه) أخرجه مالك في موطئه وفيه: أنه غسل رجليه بعدما بلغ المسجد النبوي. فثبت منه تركُ الموالاة. 265- قوله: (فغسل قدميه) قلت: وفيه تأخير غسل القدمين فقط، وليس فيه أنه غسلهما بعد الجَفَاف أو قبله.
ثم الغُسل عند كل جماع مستَحَبٌ عندنا، ولا يُدْرى أنَّه مستحبٌّ فقهيٌّ أو لكونه أنفع، وذهب بعضهم إلى الوجوب. قوله: (ومن دار على نسائه في غسل واحد) ومراد البخاري من هذا الغسل هو الذي في الآخر بعد جماع الكُلّ. 267- قوله: (ذَكَرْتُه لعائشة رضي الله عنها) وكان عند ابن عمر أن بقاء أثر الطيب بعد الإِحرام أيضاً جنابة، فهذه هي المسألة التي ذَكَرَ لها، وإليه مال مالك رضي الله عنه، ومذهب الجمهور أنه لا بأس بالطِّيب قبل الإِحرام، وإن بقي أثره أو جِرْمُه بعده. 267- قوله: (فيطوف على نسائه) وظاهره يخالف القَسْمَ، فقيل: إنه لم يكن واجباً على النبي صلى الله عليه وسلّم لقوله تعالى: {وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَآء} (الأحزاب: 51)- الآية، وقيل: إنه يجوز مطلقاً بعد ختم الدورة الواحدة قبل شروع الدورة الأخرى. قلت: وليُحَرَّر أيستقيم على مسائل الحنفية أم لا؟ فإِني لم أرَ هذا التفصيل في فقهنا أقول هذه واقعة واحدة في حجة الوداع لم تقع إلا مرة واحدة، وإن كانت ألفاظ الراوي تُشْعِر بكونها عادة، ولكن عندي اتباعُ الواقع أولى، لأنه لم يُعْلَم في الخارج غيرُ هذه الواقعة، فليقصرها على موردها. قال ابن الحاجب: إنَّ «كان» لا يدلّ على الاستمرار لغةً لأنه من الكون، إلا أنه يُستفاد منه الاستمرار عُرفاً ولا سيما إذا كان خبره مضارعاً. قلت: وهذا صحيح إلا أن الواقعة ههنا ليست إلا واحدة كما سيجيء. 268- قوله: (وهن إحدى عشرة) التسع منهن منكوحة، وثنتان سُرِّيَتَان. 268- قوله: (قوة ثلاثين) وفي «الحلية» لأبي نعيم: «قوة أربعين كل رجل من رجال أهل الجنة»، وفي إسناده أبو حنيفة رضي الله عنه. وأبو نُعيم ليس من مخالفي أبي حنيفة رضي الله عنه بخلاف الخطيب. وفي الترمذي: أن قوة رجل من أهل الجنة كمئة رجل فمن ضرب الأربعين في المئة يحصل أربعة آلاف. كذا ذكره السيوطي. قلت: والذي تحقَّق عندي بعد هدم اختلاف الألفاظ وتعبير الرواة أنه أعطي في الدنيا ما يُعطَى سائرهم في الجنة، لكونه في الدنيا من رجال أهل الجنة، وليست وراءة إلا تعبيرات وتَفَنُّناً في العبارات، فليحملها عليه.
قوله أنها طيبت فانظر كيف عبرت ههنا بكونها واقعة بخلاف الحديث المار عن قريب فعبرت فيه كأنه كان عادة له فقالت فيه كنت أطيب إلخ. فهذا كله من تصرفات الرواة وعلى المشتغل أن يتبع الواقع ولا يذهب بكل تعبير.
وحاصله: أنه إذا اغتسل بعد الوضوء فليس عليه أن يفيض الماء على أعضاء وضوئه ثانياً، فإن شاء أفاض عليها الماء، وإن شاء اكتفى بغسل سائر جسده، فقط ولمَّا قابل الراوي بين أعضاء الوضوء والجسد حيث ذكر أولاً غسلها وذكر بعده غسل الجسد بثم، ظهر أَنَّه أرادَ من الجسد غيرها، وثبت ما رامه المصنَّف رحمه الله تعالى «سائر» الأفصح أنه بمعنى الباقي، من السؤر بمعنى الباقي والفضل، وقيل: بمعنى الجميع من السور أي من سور البلد.
قال النُّحَاة: (كما هو) قد يكون للتشبيه، وقد يكون للمفاجأة، وهو المراد ههنا. قوله: (ولا يتيمم) ولا يجوز للجنب أَنْ يَدْخل المسجد عندنا، فإِنْ دخل ناسياً يتيمم ثم يخرج، وفي رواية غير مشهورة: يخرج وإن لم يتيمم. كذا في «رد المحتار»، وهي المختارة عندي، وإن كانت غير مشهورة، وهو المتبادَر في الحديث، فإِن النبي صلى الله عليه وسلّم لو كان تيمم لَذَكَرَهُ الراوي، فهو سكوت في مَعْرِض البيان، وأصل الكلام في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَآئِطِ أَوْ لَمَسْتُمُ النّسَآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} (النساء: 43)- الآية. قال الشافعية رضي الله عنهم: إنَّ صدرَ الآيةِ في حُكْمِ الصَّلاةِ ثم انتقل إلى حكم المسجد، فلا يجوز للجنب أن يدخلَ فيه إلا بطريق العبور والاجتياز. وقال الحنفية: إن آخِرَها أيضاً في حكم الصلاة كأوَّلها، ومعناه: لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنباً إلا أن تكونوا مسافرين.6 ويَردُ عليه قوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فإِنه يوجب التكرار على هذا التقدير والجواب أنه أعادُهُ لبيان حكمه، لأنه لم يذكره أوّلاً، فهذا استئناف بإِعادة ما استؤنف عنه، وهو نوع من البلاغة. ويَرِدُ على الشافعية أنه يجب عليهم تقدير المضاف، أي: لا تقربوا مواضع الصلاة ليكون المذكور فيها حكم المساجد، وهذا خلافٌ الظاهر، فإِن المتبادَر أنها في حكم الصّلاة دون المسجد، وأيضاً قوله: {عَابِرِى سَبِيلٍ} وإن صلح للعبور والاجتياز لغةً إلا أنَّ المتبادرَ منه عُرفاً المسافر، فيقال للمسافر: إنَّه عابرُ سبيل وابن سبيل. أقول: والذي تبين لي أن الآية سِيقت لبيان أحكام الصلاة، ثم انسحبت على ذكر مواضعها أيضاً، فالحكم في القطعة الأولى للعبادة، وفي الثانية لمواضع العبادة. فإِن شئت سمَّيتَه صنعةَ الاستخدام أو غيرها. وحاصلها عندي: لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكَارى، ولا تقربوا مواضعها جنباً إلا أن تكونوا مسافرين، فوافقتُ االشافعية في التفسير، والحنفية في المسألة، وكثيراً ما فعلته في مواضع. أما الجواب عن الحديث فقد مرَّ معنا في باب الاستقبال والاستدبار: أنه يجوز أن يكون من خصائصه صلى الله عليه وسلّم لِمَا عند الترمذي في مناقب علي رضي الله عنه: عن أبي سعيد مرفوعاً: «لا يَحِلُّ لأحدٍ غيري وغيرك أن يُجْنِبَ في المسجد» (بالمعنى) واستغربه الترمذي، وعدَّه ابن الجوزي في الموضوعات. قال الحافظ رضي الله عنه: إن الحديث قوي، وأخرج له متابعات، وقد مرض من قبلُ مفصَّلاً فراجعه. (الترجيح والجمع عند اختلاف الرواية عن أبي حنيفة) فائدة: واعلم أن الروايات إذا اختلفت عن إمامنا في مسألة، فعامة مشايخنا يسلكون فيها مسلك الترجيح، فيأخذون بظاهر الرواية ويتركون نادِرَها، وليس بسديد عندي ولا سيما إذا كانت الرواية النادرة تتأيد بالحديث، فإِني أحمله على تلك الرواية، ولا أعبأ بكونها نادرة، فإِنّ الرواية إذا جاءت عن إمامنا رحمه الله تعالى لا بد أن يكون لها عنده دليل من حديث أو غيره، فإِذا وَجَدتُ حديثاً يوافقها أحمَلُه عليها. نعم، الترجيح إنما يناسب بين الأقوال المختلفة عن المشايخ، فإِن التضاد عند اختلاف القائلين معقول، وربما يكون التوفيق بينهما خلافَ منشئهم، وحينئذ لا سبيل إلا إلى الترجيح، بخلاف ما إذا جاء الاختلاف عن قائل واحد، فإِنّ الأَولى فيها الجمع، فإِن الأصل في كلام متكلمٍ واحد أن لا يكون بين كلاميه تضاد، فينبغي بينهما الجمع أوّلاً، إلا أن يترجح خلافه، والأسف أنهم إذا مروا بأحاديث مختلفة يبتغون الجمع بينها عامة، وإذا مروا بروايات عن الإِمام إذا هم برجِّحون ولا يسلكون سبيل الجمع، فالأحب إليَّ الجمع بين الروايات عن الإِمام مهما أمكن، إلا أن يقوم الدليل على خلافه، فاعلمه ولا تعجل. 275- قوله: (فكبَّر فصلينا معه)... إلخ واعلم أن في تكبيره صلى الله عليه وسلّم اختلافاً واضطراباً ذكره أبو داود، فيُعلم من بعض الألفاظ أنه انصرف بعد أن كَبَّر، ومن بعضٍ آخر أنه انصرف قبل أن يكبِّر، فذهب ابن حِبَّان إلى تعدُّد الواقعة، وبعضُهم إلى وَحْدَتِها. قلت: والذي عندي أنَّ الواقعةَ واحدة وهي كما في البخاري، وفيه تصريح أنه لم يكن كَبَّر كما في باب هل يخرج من المسجد لِعِلَّة: «حتى إذا قام في مصلاه أنتظرنا أن يُكَبِّر»، وعند مسلم في باب متى يقوم الناس للصلاة «حتى إذا قام في مُصَلاة قبل أن يكبِّر ذَكَر فانصرف» وما في أبي داود في بعض ألفاظ «كبَّر» معناه: بلغ موضع التكبير، وكذا أن يكبِّر، وهذا التعبير عام، فإِنهم يُعَبِّرون عن القريب من الشيء بالشيء، وذهب البخاري رحمه الله تعالى إلى أن هذه الواقعة بعد التكبير ثم فرَّع عليه مسألة وهي جواز تقدُّم تحريمة المؤتم على تحريمة الإِمام، وهو مروي عن الشافعي رحمه الله تعالى في رواية، ووجه التفريع أن النبي صلى الله عليه وسلّم أعاد تحريمته بعد انصرافه، ولا بد لوقوعها في حالة الحَدَث، والظاهر من حال المقتدين أن تحريمتهم السابقة قد اعتُبِرَتْ واعتُدَّ بها، فلزم تقدُّم تحريمتهم على تحريمة الإِمام. (رابطة الاقتداء بين الإمام والمأموم) قلت: وأصل النزاع في رابطة القدوة: وَسَّع فيها الشافعية وَوَسَّعَ البخاري أزيد منهم، ولما كانت تلك الرابطة عندهم ضعيفة جداً تحمَّلوا تلك الاختلافات بأنواعها فيما بين المقتدي وإمامه، فجوَّزوا الاقتداء عند اختلاف الصلاتين ذاتاً وصفةً، ومن هذاالباب تقدُّم التحريمة على تحريمة الإِمام، وعدم سراية فساد صلاة الإِمام إلى صلاة المقتدي، وهذا كلّه لأنهم لم يَرَوْها شديدةً، بخلاف الحنفية، فإِنهم شدَّدوا فيها، ولذا عبّروا عنها بلفظ «التضمن» كما في «الهداية»، فانعكست عندهم التفريعات بأسرها. فالحاصل: أن مسائل القدوة عند الشافعية على خلاف مسائل التضمن عند الحنفية. ولما اختار المصنِّف رحمه الله تعالى مسائلهم على أوسع وجه، ذهب إلى جواز تقدم التحريمة أيضاً، ولعلك علمتَ مما سبق تمسك الإِمام البخاري إنما ينهض إذا سلَّمنا أنه صلى الله عليه وسلّم كان دخل في الصلاة وفرغ عن التكبير، وأن القوم لم يُعيدوا تحريمتهم، وفي كلا الأمرين نَظَرٌ، أما الأول، فقد عَلِمتَ. وأما الثاني، فلأنه روي أنَّ القومَ أعادوا تحريمتهم كما في الدَّارقطني أنهم كبَّروا بعد انصرافه صلى الله عليه وسلّم على أنَّ المسألةَ عند المصنِّف رحمه الله تعالى أن الإِمام إن كان فرغ عن التكبير يجب على القوم أن لا يزالوا قائمين على هيآتهم، مع أنَّ روايةَ أبي داود صريحةٌ في أنه أمرهم بالجلوس. ففيه: عن محمد رحمه الله تعالى مرفوعاً قال: فكبَّر ثم أومأ إلى القوم أن اجلسوا، فذهب فاغتسل، وكأن هذا الراوي يناقض نفسه عند المصنِّف رحمه لله تعالى، فإِنه يذكر تكبير الإِمام، ومع هذا يقول: إنه أمرهم بالجلوس وهذا يناقض ثبوت التكبير عنده، لأنِّ الجلوسَ عنده فيما إذا لم يكبِّر الإِمام، وعبارة المصنِّف رحمه الله تعالى في بعض النسخ هكذا: «قيل لأبي عبد الله: إن بدا لأحدنا مثلَ هذا يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم قال: فأي شيء يصنع؟ فقيل: ينتظرونه قياماً أو قعوداً، قال: إن كان قبل التكبير فلا بأس أن يقعدوا، وإن كان بعد التكبير ينتظرونه قياماً». وحكى بعض المحدثين عن أبي داود في هذه الواقعة جلوسَ بعضٍ وقيامَ بعض. ثم اعلم أنه ينبغي للرسول أن نقع له مثل هذه الواقعة مرة أو مرتين لقوله صلى الله عليه وسلّم «إنما أُنَسَّى لأَسُنَّ»، ولكونهم بشراً فينسون كما تَنْسَون، وهذا كمال في حقهم ورحمة في حق أممهم.
هذه الترجمة إذا كان في الفضاء وأَمِنَ من مرور الناس، وفي مراسيل أبي داود: أنه لو اغتسل في الفضاء فليَخُطَّ حوله خطّاً، لأن هناك أيضاً من عباد الله مَن يُسْتَحَى منهم، فالمطلوب التستر، ولو اغتسل عُرياناً لا يكون معصيةً. قوله: (الله أحق) يعني أن الله سبحانه وإن كان يعلم سِرَّهم ونجواهم إلا أنه ينبغي أن يُسْتَحْيَى منه مما يُسْتَحْيَى فيما بين الناس، فهذا من الآداب. 278- قوله: (يغتسلون عُرَاةً) ولعله كان في التِّيْهِ لانعدام العِمَارَات فيها. 278- قوله: (ثوبي يا حجر) يدل على أن فيه شعوراً، ولكنه من نحو العلم الحضوري فقط. قوله: (لَنَدبٌ) ترجمتُه في لساننا: ليكين. قلت: وإنما رُئي عليه من ضربه ندباً فقط، لأنه قُدِّر منه تفجُّر الأعين، وإلا لانعدم بضرب موسى، وأَنَّى كان للحجر أن يضربه نبي مغضَباً عليه ثم يبقى موجوداً، ألا ترى أنه وَكَزَ واحداً من أهلهم فقضى عليه، ولطم المَلَك ففقأ عينه، وأشار النبي صلى الله عليه وسلّم برُمح إلى رجل ناداه في أُحُد يا محمد، وأراد أن يُبَارُزه فخرَّ يَتَدَهْدَه، ودعا بالويل والثُّبُور حتى ماتمُحْرَقاً، ولذا قيل: شر القتلى من قتله نبي، ولذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم القتال. 279- قوله: (يغتسلُ عرياناً) أي بعد ما صحّ ممَّا ابتُلي به. 279- قوله: (عما ترى) أي بعد النجاة إلى الآن. 279- قوله: (لا غنى بي عن بركتك) ما ألطفَ جوابَه وأملحه لفظاً، وأعمق معنىً، وأليق شأناً، فهذا لا يمكن إألا ممن اصطفاهم الله لنفسه. ومثله جواب موسى عليه السلام حين ناداه ربه: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} (طه: 21) فجعل موسى يَلُفُّ ثوباً على يده ويَمُدُّ إليها يده ليأخذها، فنُودي أَلا تعتمد علينا قال: بلى، ولكني بَشَرٌ خُلِقْتُ من ضعف. وكجواب إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام قال: {بَلَى وَلَكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} (البقرة: 260) . فهؤلاء الأنبياء عليهم السلام يُلْهَمون جوابَهم من جهته تعالى، وإلا فَمن يتكلم بين يديه إلا من بعد إذنه.
يعني لا بأس بالغُسل بينهم إذا كانت له سُترة تستره عن أعين الناس. وحاصل المسألة عندي: أنَّ التسترَ في الفضاء مطلوب ولو بثوب، ولا أقلَّ من خطٍ، وإن لم يفعل وأَمِن المرور لا بأس، أما في المُسْتَحِمّ والمُغْتَسَل- كما في زماننا- فلا بأس بالغُسل عُرياناً. 280- قوله: (فوجدته يغتسل) وفي الروايات أنَّه صلى ثمان ركعات، وفي ابن ماجه تصريح بكون التسليمتين على كل ركعتين ثم إنها كانت صلاة الضحى أو شكراً للفتح ووافق وقتها فلينظره. 281- قوله: (تابعه أبو عَوَانَة) هو وَضَّاح بن يَشْكُر (وابن فُضَيل) اسمه: محمد.
وفي «الدر المختار» أن مُدْمِنَ الخمر لو وُجِدَ ريح الخمر من عَرَقه، فثوبه نَجِس. وفي «المبسوط» لمحمد رحمه لله تعالى أن غُسَالة الميت نَجِسة. وحَمَلَه المشايخ على ما اختلط بها نجاسة خارجة منه، بخلاف الكافر، فإنه جِيفة حياً وميتاً، فغُسالته نَجِسَة ولو لم يخرج منه شيء. وظني أنَّ المصنَّف رحمه الله تعالى ذهب إلى نجاسة بَدَنِ الكافر، ونُسِب إلى مالك رحمه الله تعالى أيضاً، واختاره الحسن البصري أيضاً، فلو غَمَسَ يدَه في الماء يصير نجساً، كما ذكره العيني، فكأنه أسوأ من الخنزير أيضاً حيث سؤره طاهر عند مالك في رواية، وهو ظاهر القرآن، فإنه قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة: 28) ... إلخ. واعلم أن النَّجَس في اللغة: ما كان نَجِساً في ذاته كَعَذِرَةِ الإنسان وبوله، لا ما اختلطت به النجاسة. وعلى هذا لا ينبغي أن يُطلق النَّجَس على الثوب النَّجِس، بل يقال فيه: إنه متنجّس، لأن أهل اللغة لا يتعارفون إلا ما كان نَجَسَاً عندهم، وهو ما يكون متقذِّراً طبعاً، أما ما يكون نَجِساً بعد حكم الفقهاء، فإنه بمعزِل عن أنظارهم، ولذا لم يضعوا له لفظاً، ولمّا لم يكن عندهم لفظ موضوع لهذا النوع من النَّجَس اضطر الفقهاء إلى التوسيع في هذا اللفظ، فاستعملوه في النَّجَسِ والمُتَنَجِّس أيضاً، وأما أصل اللغة فكما قلنا. وحينئذ ظهر معنى ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه: أن المؤمن لا يَنْجُس حياً وميتاً. ورَفْعُه معلول، وقد مرَّ عليه الوزير محمد بن إبراهيم فقال: لا يصح إطلاقه على المؤمن لا حقيقة ولا مجازاً، وهذا الفاضل زَيديٌّ، وعندهم أحاديث أهل السنة أيضاً حجةٌ، والحافظ رحمه الله تعالى لما جاء إلى الحج أجازه أيضاً في الحديدة كما ذكره في «الدُّرَر الكامنة». وقد مرّ أيضاً أن قوله صلى الله عليه وسلّم «إن الماء طَهورٌ لا ينجِّسُه شيء»، حمله الشيخ ابن الهُمَام على الماء الخاص، وأخذ اللام للعهد، وقيَّده الطحاوي بقوله: «كما زعمتم»، كما قَيَّد في سؤر الهرة، وانكشف بهذا التحقيق أنه ليس بنَجَسٍ حال كون النجاسة فيه أيضاً، فإن له صورةَ التطهير بإخراج النجاسة ونَزْحِ البئر، فماء الآبار ليس بنَجَس، ولكنه متنجِّس، إلا أنه لمّا كَثُر في الفقه إطلاق النَّجَس على المتنجِّس غُفِل عن هذا الإطلاق حتى لا يَسبقَ إليه ذهن أحد، وعليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}. واعلم أنَّ في الآية حكمين: الأول: بنجاسة الكافر، والثاني: بحرمة دخولهم في المسجد الحرام. وقد علمتَ مذهب مالك رحمه الله تعالى في الجملة الأولى، وأما في الجملة الثانية فإنَّه قال: إن الكافرَ لا يدخل المسجد الحرام ولا غيرَه، مع أنه ثبت في أحاديث الصحيحين وغيرهما دخولهم في المسجد، ومرّ عليه القاضي أبو بكر بن العربي المالكي وقال: إن تلك الوقائعَ كلَّها قبل عامهم هذا، وإنما النهي فيما بعد عامهم هذا، ثم إن النَّصَ وإن خَصَّصَ المسجد الحرام بالذِّكر لكنه عَمَّم الحكم بالتعليل فقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فالنهي عن دخولهم لكونهم أنجاساً، فيشمل المساجد كلها ولا يختص بمسجد دون مسجد. وأما الشافعية، فلم أر عنهم شيئاً في نجاسة المشرك، وصرَّحوا أن الكافر لا يدخل المسجد الحرام، فوافقوا مالكاً رضي الله عنه في الحكم، وخالفوه في التعميم. وأما الحنفية فإنهم قالوا: إنَّ المشركَ ليس بنَجَسٍ، وله أن يَدخل المسجدَ الحرام وغيرَه، كما في «الجامع الصغير»، فأشكلتْ عليهم الآية. قلت: وفي «السِّيَر الكبير» أنَّه لا يدخل المسجد الحرام عندنا أيضاً، كما هو ظاهر النص، واختاره في «الدر المختار» لأن «السِّيَر» آخر تصانيف محمد رضي الله عنه. بقي الكلام في الجملة الأُولى بعدُ، فأُجيب عنها أنَّ المرادَ من النجاسة نجاسةُ الشِّرْك دون نجاسة البدن، وهو كما ترى. فإن النجاسة وإن كانت نجاسة الشرك لكن الحكم أن لا يقربوا المسجد الحرام، والجواب حينئذ كما في «الكشاف» أن المراد من عدم القرب نهيهم عن الحج والعمرة فقط، كما في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلّم بعد نزولها بعث أبا بكرٍ أميراً، وعليّاً رضي الله عنهما لينادي في الناس أن لا يَحُجَّ البيتَ عُريان ولا مشركٌ، فاستُفِيد منه أن الغرض من النهي هو منعهم عن الحج والعمرة، وفيه نظر بعدُ، لأنه يجري البحث في أنه هل يجوز ترك لفظ القرآن بعد ما انكشف الغرض أم لا؟ والذي يظهر أن ترك تعبير القرآن بحيث لا يبقى له حكمٌ وأَثَرٌ عسيرٌ جداً، وإنما يتوسع بمثله في الأحاديث لفُشوِّ الرواية بالمعنى، وأما في القرآن فإنه مشكل، ولا سيما إذا كانت المناسبة بين الجملتين ظاهرة كما هو هنا. فإنه حكم في القطعة الأولى بكونهم أنجاساً، ثم فَرَّع عليه أن لا يقربوا، فهذان الحكمان يرتبطان جداً لما ظهر أثر اللفظ في الحكم أيضاً، ولذا اخترتُ رواية «السِّيَر الكبير» بأن دخولهم في المسجد الحرام غير جائز، وأن النجاسة فيهم أزيد من نجاسة الشِّرك، أما دخولهم في سائر المساجد فالأمر فيه موسَّع، لأن الأصوليين قالوا: إن العموم إنما يكون في الآحاد لا في الأزمنة والأمكنة، وإن ذهب إليه جماعة أيضاً، إلا أن المختار عندي أن العموم في الأفراد والآحاد فَحَسْب، لأن الأحوال والأزمنة والأمكنة ليست موضوعاً لها ليشملها اللفظ. وعلى هذا فالنجاسة عندي محمولة على ما هو المعروف لا على نجاسة الشِّرك، ومع هذا يقتصر النهي على المسجد الحرام، لأنه ليس من ضرورة العموم في الأفراد العموم في الأمكنة أيضاً ليعمَّ النهي سائر المساجد، وعُلِم من هذا الاختلاف أن العموم في الأفراد قويٌّ، وأما في الأمكنة وغيرها فضعيف، حتى أنكره بعضهم كما علمتَ. وهكذا يعلم من كتبنا أنهم اعتبروا نجاستهم فوق نجاسة الشرك ففي «البدائع» عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في البئر سقط فيه كافر ثم أُخرج حياً أنه يُنْزَح كله، وكذا لو أسلم الكافر يجب عليه الغُسل في رواية، كذا في «الذخيرة» عن الحسن بن زياد، فدلّ على أن نجاسة هؤلاء أزيدُ من نجاسة الشِّرْك، إلا أنه لا يُدرى أنه إلى أين تجري وأين تُكَفُّ. وأجاب ابن رُشْد عن الإشكال المذكور: أن إطلاق النَّجَس عليهم أُجْرِي مجرى الذَّمِّ، فالله سبحانه وتعالى بالغ في ذمهم ونزَّلهم منزلةَ النَّجَس، لا أنهم أنجاسٌ حقيقةً، فلا يَرِدُ عليه شيء. والحاصل: أن ههنا أربعة أجوبة: الأول: أنَّ المراد من النجاسة نجاسة الشِّرك، وهذا لا ينفع في المسألة الثانية لصراحة الحكم بعدم القُرْبِ، على أنه حُمِل اللفظ على الغير المعروف، والمعروف هو النجاسة المتعارَفة التي تتقذرها الطبائع، ثم إنه لا يرتبط بالمسائل، لأن ما في الفقه يدلُّ على أن نجاستهم فوق نجاسة الشرك، لتعلق بعض أحكام النجاسة بأبدانهم أيضاً. نعم، إن اخترنا رواية «الجامع الصغير» فله وجه ونفاذ. والثاني: أنَّ المرادَ من النجاسة هي التي تُعُورِفت عندهم مع التزام النهي عن دخولهم في المسجد الحرام، كما في رواية «السير الكبير». والثالث: أن المراد من النهي عن القُرْبِ هو الحج والعمرة دون الدخول مطلقاً، وفيه أنه يلزم عليه تركُ تعبير القرآن رأساً، وهو مُشكل ولا سيما إذا اتضحت المناسبة بين القرينين، فإن الحكم بالنجاسة يدلّ على أن الغرض عدم دخولهم مطلقاً دون المنع عن الحج والعمرة فقط. والرابع: أن اللفظ النَّجَس أُخْرِج مخرج الذَّم، وما يُساق لأجل الذم أو المدح لا يُعتبر فيه اللفظ، ويكون المراد هو المعنى فقط، فكذلك فيما نحن فيه، لما أطلق عليهم النَّجَس ذَمّاً وشناعة لهم لا يجري عليهم ما يجري على النَّجَس حقيقة. قوله: (سبحان الله) وفي النظم لابن وَهْبَان ما معناه: أن إخراج تلك الكلمات عن موضوعها ليس بصحيح. قلت: ورأيت كثيراً ما يُخْرِجونها عن موضوعها كما ترى ههنا، فإنها وإن وُضِعَتْ للتسبيح لكنه مستعمل في التعجب.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى عند الطحاوي أنه لا بأس بنوم الجُنُب من غير أن يتوضأ لأن التوضؤ لا يخرجه من حال الجنابة إلى حال الطهارة، وعندهما يتوضأ ثم ينام، لِمَا في «تنوير الحوالك» من «معجم الطبراني»: «أن ملائكة الرحمة لا تَحْضُر جنازة الجُنُب»، فهو ضرر عظيم، ويدور النظر فيما يشتمل المقام على الضرر مع عدم ورود الوعيد والنهي صراحةً، فينظر بعضهم إلى المعنى فيذهب إلى الوجوب، كما في «شرح المنهاج»: أن التسمية واجبةٌ عند الأكل عند الشافعي رحمه الله تعالى في رواية، وكالتسمية قبل الوضوء عند البخاري، فإن الشيطان يشترك في كل أمرٍ لم يُبْدَأ باسم الله ويمحق بركته، وهذه مَضَرَّةٌ عظيمة. ويَنظر بعضهم إلى اللفظ، فإن كان ورد فيه الأمر أو النهي يقول به، وإلا لا، والظاهر أن الوجوب والحُرمة تدور على الخطاب دون المعنى كما مرّ مفصلاً. أقول: ولم يثبت عندي نومه صلى الله عليه وسلّم في حالة الجنابة إلا بالغسل أو الوضوء، وثبت التيمم أيضاً كما في «المصنَّف» لابن أبي شَيبة، كما في «الفتح»، وفي «البحر»: أن التيمم فيما لا تُشترط فيه الطهارة صحيح مع وجدان الماء أيضاً، وهو مختار جماعة، وهو الصحيح عندي، وما رواه أبو إسحاق عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها في نومه صلى الله عليه وسلّم في حالة الجنابة، فقد بَيَّنَه الطحاوي مفصَّلاً، وبَعْدَه لا يبقى فيه ما يُخَالفنا بشيء. فساق أولاً حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا رَجَعَ من المسجد صلى ما شاء الله ثم مال إلى فراشه وإلى أهله، فإن كانت له حاجة قضاها، ثم ينام كهيئته ولا يَمَسّ الماء»، ثم قال الطحاوي: إنه حديث مختصر اختصره أبو إسحاق من حديث طويل فأخطأ في اختصاره إياه. والحديث الطويل ما رواه فهد: حدثنا أبو غسان حدثنا أبو إسحاق قال: أتيت الأسود بن يزيد، وكان لي أخاً وصديقاً، فقلت: يا أبا عمرو حَدِّثْني ما حدَّثَتْكَ عائشة رضي الله تعالى عنها أمُّ المؤمنين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ينامُ أوَّلَ الليل ويُحيى آخره، ثم إن كانت له حاجة قضى حاجته، ثم ينام قبل أن يَمَسَّ ماء، فإذا كان عند النداء الأول وَثَبَ»، وما قالت: نام فأفاض عليه الماء، وما قالت: اغتسل، وأنا أعلم ما تريد، «وإن كان جُنُباً توضأ وضوء الرجل للصلاة»، فصرح في هذا الحديث الطويل أنه إن أرادّ أن ينام وهو جُنُب توضأ وضوءه للصَّلاة، وأما قولها: «ولم يمسَّ ماء». فالمراد منه الماء الذي للغُسل، لا على الوضوء، لِمَا رواه غير إسحاق عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أراد أن ينام أو يأكل وهو جُنُب يتوضأ»، وهكذا روي عن الأسود من رأيه وهكذا رواه مسلم إلا أن في آخره جملة تناقضه وهي: «وإن لم يكن جُنُباً توضأ وضوءه للصلاة»، ولم يتعرض إليه أحد. ويمكن أن يوفَّق بينهما أنّ ما في الطحاوي فهو حالُهُ في أول الليل، وما عند مسلم، فهو حالُه في آخر الليل، أي: إن كان جُنُباً في آخر الليل اغتسل، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة، وأشار محمد رحمه الله تعالى إلى ما ذكره الطحاوي. نعم كَشَفَه الطحاوي، ثم إني تتبعتُ إلى زمان لأَعْلَم أن مأخذ كلام الطحاوي ما هو؟ فبان لي بعد الفحص البالغ أن أصله يكون من محمد رحمه الله تعالى، ثم الطحاوي يُفَصِّله. قال محمد رحمه الله تعالى في «مُوَطَّئه»: هذا الحديث أوفقُ بالناس.
|